أبذل حياتي لتبدي رأيك


نـصـف الـحـقـيـقــة 

     آمن صحابة رسول الـلـه “صلى الـلـه عليه وسلم” رضي الـلـه عنهم وتابعيهم بإحسان، بحق الناس في الاختلاف، وتبعهم في هذا الأئمّة الكبار، وتذكرون المبدأ الرائع الذي أطلقه الإمام الشافعي” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب “. لكن المتأخرين لم يحترموا هذا الحق، وصار الاختلاف في الرأي مدعاة إلى ” التكفير ” وألفوا في ذلك الكتب، ومن حسن الحظ أن هذه الكتب ليست منشــورة على نـطاق واسع. وبدلاً من أن نرث سمـاحة الأوائل واحترامـهـم ” الرأي الآخر ” حتى في تـفسـير آيات الكتاب الكريم والأحاديث الشـريفة، وفي اسـتنباط الأحكام بالاجتهاد والقـياس، ورثنا عن المـتأخرين عـنادهـم ومـكابـرتـهـم وتـصـلبـهم وتـشـبـثهـم بآرائـهـم وتعصـبهم لـها، وتسـفـيـه الرأي الآخر واحـتقاره، حتى وصل الأمر إلى التـكفـيـر. وفي القرن العشرين اخترعنا مقابلاً سياسياً للتكفير هو ” التخوين “.

 في القرن الماضي تعاظم” الـمدّ القومي ” العـربي، وارتبط هذا المد بتطبيق ” الاشتراكية ” بدرجات مـتـفـاوتـة. لكن دولاً عربية كـثيـرة ارتضـت ” النظام المـلكي ” كنـظام حكم، ووجدت في ” الرأسـماليـة واقـتصاد الســوق ” النهـج الأمثل لاقـتـصادهـا، وانـتشـرت في تلك السـنوات مـوضة  التخويـن و”الاتهام بالعمالة ” لهذه العاصمة أو تلك. راح ” التقدميون ” يتهمون كل من يخالفونهم الرأي بأنهم ” الرجعـيـة ” العـربـيـة، وبأنهـم سـبب مـصائـب الأمة (بالإضـافـة الى الاسـتعـمار والصهـيـونـيـة العالمية) من نكبة فلسـطين إلى انهـيار الوحدة، إلى سـلسـلة الهـزائـم التي منيت بها الأمـة، وبأنهـم عـملاء للولايات المـتحـدة وبـريـطـانـيا وفـرنسـا، حتى كنت تحسب أن العرب – لولا هؤلاء – كانوا قادرين على محو إسرائيل من الوجود.

 ورد عليهم الآخرون باتهامهم بالتخلي عن ثوابت الأمة، و” بالإلحاد ”  أحياناً، وبأنهم قمعيون ديكتاتوريون دمويون، وعملاء لموسكو وبكين، وفي بعض الحالات عملاء للناصرية وثورة 23 يوليو. اخترع بعض الحكام العرب جامعة الدول العربية عام 1945، ولم يكن بإمكانهم أن يجعلوها أفضل مما وجدت عليه، وهذا ليس عيباً فيهم، فالسوق الأوروبية المشتركة – ومن بعدها الاتحاد الأوروبي – نتاج  لمنظمة بسيطة هي «اتحاد منتجي الحديد والصلب» أما السوق نفسها فقد أنشأتها ست دول هي ” فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ ” عام 1958، لكنهم لم يتوقفوا ويعتبروا ذلك غاية المنى ونهاية المطاف، بل تقدموا خطوات مدروسة حتى وصلوا الى توحيد العملة، وفتح الحدود، وتوحيد السـياسـة الخارجية، وكان من أهم عوامل هذا النجاح أن كل دولة تحترم الدولة الاخرى، وأن الجميع متساوون من ألمانيا الى لوكسمبورغ.

 ما زلنا حتى الآن لا نؤمن بحق الاختلاف واحترام الرأي الآخر، وقبل بوش الصغير بسنوات طويلة، سبقناه إلى تطبيق مبدئه الشهير ” من ليس معنا فهو ضدنا ” ولا نطبق هذا المبدأ إلا على أشـقائـنا، وكل منا يرى نـفـسـه على حـق، ويجب أن يـنـصاع الجـمـيـع لرأيه، واسـتعـرضوا تاريخـنا الحديث، وأضمـن لكم ألا تجدوا فيه مـوقـفـاً واحداً ولا قـضـيـة واحدة أجـمعـت عليها الآراء، واحترم كل منا فيها رأي الآخر. نـتـشـدق بالأخوة العـربـيـة، ووحدة الـمصـيـر، وحـتـمـية الـتضامـن الـعـربي، ولكننا نـتـبارى في تسـفـيه آراء الآخريـن، و” نـتحـاور ” بلغـة أقرب الى الشتائم، وقد ننتقل إلى الحوار الرصاص والقنابل.

نردد مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير الرائعة، ولكنها كالحلية التي لا تضر ولا تنفع ” قد أختلف في الرأي معك، ولكنني على استعداد لأن أبذل حياتي ثمناً لحقك في إبداء رأيك “.


Leave a Reply

Your email address will not be published.