تبلغنا العيون بما أردنا


“دوحة العشاق” صفحة دائمة في مجلة “الدوحة” التي تصدرها وزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية

يحفل التاريخ الشعري العربي بقصص العشـق والعشـاق ، ونحدد “التاريخ الشعري ” لأن المؤرخين لم يهتمّوا إلا بالشـعراء من العشـاق وأهملوا غيرهـم ، فلا نجد أخبارهم إلا في بعض المصادر التي اهتمت بطرائف القصص والأخبار، أو التي عنيت بأخبار العشق وقصصه مثل ” مَصارع العشـاق ” للسـِّـراج القاري ( 1027-1106م ) و ” تزيين الأسـواق في أخبار العشـاق ” لداوود الأنطاكي ( ؟ – 1600م ) . حتى هـؤلاء العـشـاق الشـعـراء لم يلقـوا القـدر نفـسـه من الاهـتـمـام ، فـقـد أصبح بعـضهـم نجوما ً يردد  الناس أســماءهم حتى دون أن يحفظوا بيتا ً واحدا ً من أشـعـارهـم مثل ” جميل بثينة ” و ” كُثيــِّر عزّة ” و” ذي الرُمّـة ” ( اســم صاحبتـه ميّ )، بينمـا لا يعـرف معـظـم عـشـاق الشـعـر شيئا ً عمن كانوا  أئمة العـشــق مثل ” عُروة بن حـِزام ” وصاحبتـه عفراء ، و ” عبد الله بن العجلان النهدي ” وصاحبتـه هند، و” المرقـِّـش الأكبر” وصاحبته أسماء .

ثمة ظلم آخر في قصص العشـق والعشـاق ، وفي تاريخ الشعر العربي بعامّة . فإذا اسـتثنينا ” الخنسـاء ” و” ليـلى الأخيلـيـة ” فإننا لانجـد للـنـسـاء الشـاعـرات إلا أبـيـاتـا ً متـفـرقـة ، وقد لا نجد لـلـشــاعـرة إلا بيتين أو ثلاثة قالتها في مناســبة ما ، ترتبط في أغلب الأحيان بالشاعـر العاشق ، مع أن القراءة المتأنيـة المتفحصة لهذه الأبيات تنم عن شـاعرية حقة ، ولذا يصعب تصديق أن هذه المرأة لم تقل شـعـرا ً لا قبل المناسـبة ولا بعدها . لنقرأ هذا المثال .

حين حضرت جميل بن مـَعمَـرالوفاة في مصر، عزَّ عليه ألا تعلـم بثينـة بالأمر ، فأعطى رجلا ً راحلتـه وما عليها ، وأوصاه أن يرتدي حلـّته ، وينشد عند حيّ بثينة :

صَدَع النـّعِيُّ وَما كـَـنى بِجَميـلِ       وَثوى بِمِصرَ ثـَواءَ غـَيرِ قـَفـولِ

وَلَقَد أَجُرَّ الذَيلَ في وادي القُرى       نـَشـــوانَ بَين مَزارِعٍ وَنـَخيــلِ

بَكـرَ النَعِيُّ بِفـارِسٍ ذي هِـمَّــةٍ         بَـطـَلٍ إِذا حُــمَّ اللِقـــاءُ مُـذيــــلِ

قومي بُثـينـةُ فَانـْدُبي بِعَويــلِ       وَابـْكي خَـليلـَكِ دون كُـلِّ خَـليــــلِ

فخرجت إليه بثينة في نساء وقد فرعتهن ( فاقتهن ) طولا ً، فلما تيقنت من صدقه صكـّت وجهها وأغمي عليها ساعة ، فلما أفاقت قالت :

وَإنَّ سُلـُوِّي عَنْ جَميلٍ لـَساعَةٌ         من الدّهرِ لا حانَت وَلا حان حِينُها

سَوَاءٌ عَلينا يا جَميلُ بن مَعَمرٍ،         إذا مُتَّ، بأســـاءُ الحَـيـاةِ وَلـيـنُـهــا

فكيف نصدق أن من قالت هذين البيتين لم تقل شـعرا ً قبلهمـا ولا بعدهمـا ؟ ولو أننا قرأنا البيتيـن وقد نسبا إلى أحد الشعراء لأعجبنا بهما أيما إعجاب .

ونضرب مثـلا ً آخر ، إذ تـتـكـرر حكايـة رجـل يدعى “جـَعـْد بن مِهجَع ” في كـتـب كثيـرة منهـا الأغاني والفـرج بعد الشــدة للقـاضي التـنـوخي وأخبار النســاء لابن الجوزي والتـذكـرة الحمدونيـة لابن حـمـدون وغيرها ، وفي نهاية الحكاية تنشــد “أســماء” صاحبة جعد ثم زوجته ثلاثـة أبيات ،  يمكن أن نعدهـا من عيون شعر الغزل :

كتمتُ الهَوَى إني رأيتُـكَ جازِعاً         فقلتُ فتىً بعضَ الصّديـقِ يُرِيـدُ

وَإنْ تطـَّرِحْنّي أوْ تـقـولُ: فـتـيـَّـة        يُضِرُّ بهـا بَـرْحُ الهَــوَى فـتـعـُودُ

فَوَرّيْتُ عمّا بي وفي الكـبِدِ الحشا       من الوَجْدِ بَرْحٌ، فاعلمن َّ، شـَـديدُ

ومع ذلك لا نجد في كتب التراث  بيتا ً واحدا ً لهذه الشاعرة غير هذه الأبيات .حتى في قصـة مجـنـون ليلى لا نجد له بيتا ً واحدا ً قبل عـشـقـه ليـلى ، ويلفـت الانتـبــاه أنها كانت المبادِرة إلى البـوح ، وقالت الشــعـر قـبـلـه ، فقد أحبت أن تعـرف ما لهـا عنده ، فاهـتمت بغيره فلمـا امـْتـُقـِع لونه قالت :

 كِلانـا مُظـْهـِرٌ للناسِ بُغضــاً          وكـلٌّ عندَ صـاحـبـهِ مَـكـِيــنُ

 تُبلـِّغـُـنــا العـُيـون بـمـا أَردنـا          وَفي القـلبـيـنِ ثـَمَّ هَوىً دفيــنُ

لسنا نؤرخ للعشق والعشاق فالمجال لا يتسع لهذا ، إنما هي طرائف ومفارقات من هذا العالم الجميل ، عالم الحب والمحبين .


Leave a Reply

Your email address will not be published.